كُتب و دراسات

كمال الملاخ: عبقرية متجددة ومشروع نهضة لا يموت

كمال الملاخ: عبقرية متجددة ومشروع نهضة لا يموت

في بقعةٍ نائية من صعيد مصر، حيث تلتقي الرياح الجافة بظلال النخيل، وُلد طفل حمل معه عبق الأحلام وطموحات النيل. كان كمال الملاخ، الطفل الصغير الذي تسللت في عروقه أساطير الأجداد، وكأن الرمال التي لعب بها تخبئ أسرار الفراعنة. في تلك البقعة التي تجاور الماضي، بدأ مستقبل الرجل الذي سيعيد اكتشاف شمس مصر ويضيء شاشات العالم العربي.

في أعماق صعيد مصر، وتحديدًا في محافظة أسيوط، وُلد كمال الملاخ في أكتوبر 1918، حيث حملت الرياح القادمة من النيل معه روحًا مليئة بالفضول والطموح. نشأ وسط طبيعة صعيدية بسيطة لكنها مفعمة بعبق التاريخ، وكأن تلك الأرض تهمس في أذنه أسرار الأجداد وتلهمه بحب الفن والتاريخ.

لم تكن طفولة كمال تقليدية، بل عكست شخصية فريدة، مولعة بالمعرفة، تتوق دائمًا لاكتشاف الجديد. كان يحمل بداخله شغفًا لا ينطفئ للبحث عن الجمال في كل شيء، سواء بين طيات الكتب، أو في تفاصيل الحياة اليومية البسيطة.

الخطوة الأولى: الصحافة كنافذة للإبداع

بدأت رحلة الملاخ من الصحافة، حيث دخل هذا العالم الرحب مسلحًا بقلمٍ طموح ورؤية متفردة. انضم إلى جريدة “الأهرام”، وبرز بسرعة ككاتب يمتلك أسلوبًا مختلفًا. كان يرى الصحافة ليس فقط وسيلة لنقل الأخبار، بل نافذة لفهم المجتمع وتوجيهه.

بأسلوبه الساخر تارة والجاد تارة أخرى، جذب الملاخ قراءً من جميع الأطياف، وسرعان ما أصبح من أبرز الأسماء في الصحافة المصرية. كتب عن القضايا الاجتماعية والثقافية، وناقش موضوعات تهم المصريين، لكن بروح متجددة تبحث عن الحلول بدلًا من الاكتفاء برصد المشكلات.

التحول الكبير: اكتشاف مراكب الشمس

بينما كانت الصحافة أداة الملاخ لتوثيق الحاضر، وجد في علم الآثار بوابة للغوص في الماضي. وفي عام 1954، وبينما كان يعمل بالقرب من أهرامات الجيزة، كان على موعد مع التاريخ.

شارك الملاخ في واحدة من أهم الاكتشافات الأثرية في القرن العشرين: مراكب الشمس. تلك المراكب التي بناها المصري القديم لنقل الملك خوفو إلى العالم الآخر، جسدت عبقرية الهندسة الفرعونية. لم يكن هذا الاكتشاف مجرد لحظة عابرة في حياة الملاخ، بل كان نقطة تحول، أكدت شغفه بالثقافة المصرية القديمة وعمّقت التزامه بنقل عظمتها إلى العالم.

وسط تحديات الحفر والعمل المضني، برزت شخصية الملاخ كأثري طموح، قادر على ربط الماضي بالحاضر. هذا الاكتشاف لم يكن فقط إنجازًا أثريًا، بل رمزًا لتأثير الملاخ في مجال حفظ التراث الثقافي المصري.

السينما: مساحة للإبداع الثقافي

لم يتوقف طموح الملاخ عند حدود الصحافة أو علم الآثار. رأى في السينما مجالًا جديدًا يحمل القدرة على التأثير في وعي الجماهير. في عام 1973، أسس الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما، والتي كانت بمثابة أول لبنة في مشروعه السينمائي الكبير.

لكن طموحه لم يتوقف عند تأسيس جمعية. في عام 1976، كان الملاخ وراء إطلاق مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، أول مهرجان سينمائي دولي في العالم العربي. برؤيته الثقافية، جعل من المهرجان منصة عالمية، تجمع بين الشرق والغرب، وتجذب صناع السينما العالميين.

كان المهرجان في بدايته يعتمد بالكامل على الجهود الذاتية، لكن الملاخ استطاع بذكائه وحنكته أن يحوّله إلى حدث سنوي يحتفي بالإبداع السينمائي. بل إن الرئيس أنور السادات دعمه، وحضر بنفسه لاستقبال كبار النجوم مثل إليزابيث تايلور، مما أضفى على المهرجان مكانة دولية مرموقة.

امتداد الحلم: الإسكندرية وأسوان

لم يكن مهرجان القاهرة سوى البداية. في عام 1979، أطلق الملاخ مهرجان الإسكندرية لدول البحر المتوسط، الذي احتفى بالتنوع الثقافي لدول المنطقة، ليصبح جسرًا بين شعوب المتوسط.

لكن المشروع الذي كان أكثر جرأة هو مهرجان أسوان للسينما الأفريقية، الذي أطلقه عام 1981. كان الملاخ يؤمن بأن إفريقيا تمتلك طاقات إبداعية هائلة تستحق منصة للتعبير عن نفسها. ومع تأسيس هذا المهرجان، أصبحت مصر بوابة للسينما الأفريقية إلى العالم.

الأدب والترجمة: رحلة إبداعية موازية

إلى جانب إسهاماته السينمائية، كان كمال الملاخ كاتبًا مبدعًا ومترجمًا بارعًا. نشر 32 كتابًا، من أبرزها كتابه “أغا خان”، كما ترجم سيرة طه حسين إلى الإنجليزية بعنوان “قاهر الظلام”، وهو العمل الذي تحول إلى فيلم سينمائي شهير.

كان الملاخ ينظر إلى الكتابة كوسيلة للتواصل مع العالم، تمامًا كما فعل في السينما. من خلال كتاباته، استطاع أن يُبرز الصورة الحقيقية لمصر، ماضيها وحاضرها، ويجعلها مفهومة لكل من يقرأ.

الصراعات والتحديات

رغم إنجازاته الهائلة، لم تكن حياة الملاخ خالية من الصراعات. كان عليه أن يواجه عقبات سياسية وبيروقراطية، خاصة عندما استحوذت وزارة الثقافة على مهرجان القاهرة السينمائي. لكن الملاخ لم يكن من النوع الذي يستسلم بسهولة. واصل نضاله للحفاظ على رؤيته، ولضمان أن تظل السينما وسيلة للتنوير وليس مجرد صناعة ترفيهية.

التكريم والإرث

حصل كمال الملاخ على العديد من الجوائز والأوسمة، منها جائزة الدولة التقديرية في الفنون، وجائزة الدولة التشجيعية في الآداب، إلى جانب أوسمة شرفية من بريطانيا وفرنسا. هذه التكريمات كانت شهادة على عبقريته وتقديرًا لجهوده في مجالات متعددة.

الخاتمة: إرث خالد لا يموت

في 29 أكتوبر 1987، رحل كمال الملاخ، لكن إرثه الثقافي والفني لا يزال حيًا. كان رجلًا حمل على عاتقه مشروعًا ثقافيًا شاملًا، يبدأ من الصحافة ولا ينتهي عند السينما.

كمال الملاخ لم يكن مجرد اسم في التاريخ، بل قصة ملهمة لرجل آمن بقدرة الإبداع على تغيير العالم. إرثه يضيء الطريق لجيل جديد من المبدعين، ليواصلوا ما بدأه هذا الرجل الذي صنع من الحلم واقعًا ومن الإبداع إرثًا خالدًا.

Emad ElNashar

السيناريست عماد النشار: عضو نقابة اتحاد كتاب مصر، وعضو نقابة المهن السينمائية، وعضو الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى