مقالات رأي

الرئاسة الأمريكية راقصة غير شعبية

الرئاسة الأمريكية راقصة غير شعبية

لقد لفت انتباهي استطلاع للرأي بين خبراء الرئاسة قبل عام إلى تصنيف جو بايدن في المرتبة الرابعة عشرة بين الرؤساء، متقدما على رؤساء تنفيذيين بارزين مثل وودرو ويلسون ورونالد ريجان. في ذلك الوقت، أعرب كثيرون عن دهشتهم، إن لم يكن تشككهم، في أن النسخة الثالثة من  الرئاسة الأمريكية قد وضعت بايدن في الثلث الأول من رؤساء الأمة.

صحيح أن الرئيس بايدن ساعد في قيادة الأمة للخروج من جائحة كوفيد-19 أثناء رئاسته لسلسلة من الإنجازات التشريعية، وأشاد كثيرون به لاستعادة القواعد المهمة للمكتب البيضاوي بعد الفترة المضطربة لدونالد ترامب، الذي صنفه الخبراء في المرتبة الأخيرة. لكن القصة لم تنته، وكان الحكم أوليًّا.

في الأشهر التي أعقبت نشر هذا الاستطلاع تعلم الناخبون الأمريكيون والخبراء على حد سواء الكثير عن تراجع بايدن مع تقدم العمر، والذي ظهر بشكل خاص من خلال أدائه الكارثي في ​​المناظرة ضد ترامب في يونيو. بعد أسابيع، انسحب بايدن من السباق، وسلم زمام الأمور إلى نائبة الرئيس كامالا هاريس، التي هُزمت بشكل حاسم من قبل ترامب.

حتى مع تحول تركيز إدارة بايدن على إرثه في الأشهر التي تلت انسحابه من السباق، أصبحت رئاسته أكثر خطورة؛ فقد تراكمت الأدلة على ضعف قدرته؛ وعفا عن ابنه هانتر، مما قوض مزاعمه باستعادة الالتزام الصريح بسيادة القانون؛ واستعد ترامب وزملاؤه الجمهوريون للعودة إلى السلطة وعكس الكثير مما حققه بايدن.

إن الإرث الرئاسيّ الأمريكيّ يشكل ظاهرةً سياسيةً أميركيةً بامتياز؛ ويبدو أنه منذ اللحظة التي يخطو فيها الرئيس من على منصة التنصيب يبدأ الحديث عن إرثه المرتقب، وتأثير هذا الحدث أو ذلك القرار. ويظل هذا الإرثات محلَّ نزاع بعد فترة طويلة من تركه لمنصبه، وأحيانًا لعقود عديدة: ولنتأمل هنا إعادة التقييم المستمرة لرؤساء مثل ويلسون وأندرو جاكسون ويوليسيس إس جرانت، الذين ظلوا خارج مناصبهم أكثر من قرن من الزمان.

إنَّ الرؤساء أنفسهم يدركون هذه الحقيقة تمام الإدراك، فقد لاحظ باراك أوباما ذات يوم أنه هو والرؤساء الذين سبقوه في الرئاسة كانوا جميعًا جزءًا من قصة أميركا الطويلة الأمد، وأنَّ كل رئيس يحاول أن يكتب فقرة معينة على النحو الصحيح. وبطبيعة الحال، لا يكتب الرؤساء فقراتهم بمفردهم؛ فالصحافيون والمؤرخون وحلفاء وأعداء الرؤساء الأفراد يلعبون أدوارًا مهمة في الطريقة التي يتذكر بها الناس كل منهم وينظرون إليه.

الرئاسة

إن أنصار رئيس معين يشيرون غالبا إلى الإنجازات الجوهرية التي حققتها إدارة ما كدليل على إرث عظيم. على سبيل المثال، يزعم المدافعون عن بايدن أن خطة الإنقاذ الأمريكية ومشروع قانون البنية الأساسية وقانون خفض التضخم تجعله رئيسا عظيما، على الأقل في المجال المحلي. ولكن لكل من هذه النجاحات، هناك عيوب مثل انسحاب بايدن الفاشل من أفغانستان، وصراعه مع التضخم والوضع الفوضوي على الحدود الجنوبية.

الواقع أن أغلب الرؤساء المعاصرين قد يزعمون أنهم حققوا نجاحات سياسية كبيرة، ولكن أغلب هذه المبادرات لا تشكل في نهاية المطاف الأجزاء الأكثر أهمية في السرد التاريخي عنهم. ذلك أن الإرث الذي تركه الرؤساء يرتبط إلى حد كبير بالأداء السياسي للرؤساء، وعلاقتهم بالشعب الأميركي، ونجاح أحزابهم، والذاكرة التاريخية لما كان عليه الحال أثناء فترة وجودهم في السلطة ــ الأجواء الرئاسية، كما قد يقول بعض أصدقائي.

عندما نتأمل الطرق التي يتذكر بها الناس الرؤساء، نجد أن أعظم إنجازاتهم السياسية لا تتصدر قائمة أولوياتهم في أغلب الأحيان؛ فالرئيس جيرالد فورد لا يتذكره الناس بسبب جهود إدارته في مكافحة التضخم أو بسبب توقيعه على إصلاحات تمويل الحملات الانتخابية، بل بسبب العفو عن سلفه ريتشارد نيكسون. أما رئاسة جيمي كارتر فإنها تتحدد غالباً بخطابه الذي ألقاه في وقت حزن شديد، وليس بالأيام الثلاثة عشر التي قضاها في كامب ديفيد للتفاوض على سلام دائم بين إسرائيل ومصر.

إن النظر إلى أسلاف بايدن الأحدث يكشف الكثير. ففقرة بيل كلينتون تدور إلى حد كبير حول تعميق الاستقطاب الحزبي وعزله، في حين تركز فقرة جورج دبليو بوش، التي تتخللها إعادة فرز الأصوات في فلوريدا وإعصار كاترينا، على حروب ما بعد 11 سبتمبر في أفغانستان والعراق. وتركز فقرة باراك أوباما حتى الآن على مكانته التاريخية كأول رئيس أمريكي من أصل أفريقي ودفعه الناجح لقانون الرعاية الميسرة، إلى جانب صعود حزب الشاي والمزيد من الاستقطاب. تميزت فترة ولاية ترامب الأولى بجائحة كوفيد-19، وعزله مرتين وانتفاضة 6 يناير، ولكن الآن بعد أن أصبح أول رئيس منذ جروفر كليفلاند يخدم فترات غير متتالية، فإن فقرته مكتوبة بنصفها فقط.

وبينما نتأمل إرث بايدن، فمن المرجح أن يكون ترتيبه في أحدث استطلاع هو أعلى مستوى له. وسيتعين على التقييمات المستقبلية أن تتضمن معلومات جديدة ليس فقط عن تدهوره، بل وأيضاً مدى إخفائه هو وموظفوه لهذا التدهور، والتعامل غير الفعال من قِبَل الإدارة مع الحرب في غزة، ومكانة الرئيس المتدنية بين الشعب الأميركي في نهاية ولايته، والموقف الهش الذي يترك فيه حزبه.

mohamed jalal

محمد جلال الأزهري رئيس تحرير "الفاصل" ومؤسسه. هو كاتب وباحث مصريٌّ، صَدَرَ له ثلاثة عشر كتابًا - شِعرًا وسردًا وتحقيقًا، وانطلاقًا من اختصاصه بعلوم الشريعة الإسلامية التي أكمل فيها درجة الماجستير في الشريعة الإسلامية -إضافةً إلى عدد من الدرجات العلمية في حقل العربية وآدابها من كلية دار العلوم- أسَّس لنفسه أساسًا في مجال التدقيق اللغويِّ بعد أنْ تخرَّج في كلية أصول الدين، حتى ترأَّس مناصبَ تحريريةً كبرى في عدد من دور النشر المصرية. وبعد أنْ كان مشرفًا علميًّا في قسمَي الفقه واللغة لعدد من شركات تحقيق التراث وتنقية المعلومات - يعمل الآنَ رئيسَ تحريرٍ لإحدى المجلات المتخصصة، حيث يواصل كتابة سيرته، ويُديمُ إخراجَ كتبٍ وبحوثٍ في فنَّي الرواية والنقد الأدبيِّ وعلوم اللغة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى